منذ لحظة التأسيس لجماعة الإخوان قدمت نفسها كجماعة مطواعة وسهلة وقابلة للإيجار، وتقديم الخدمات لأجهزة الاستخبارات العالمية نظير بعض المصالح والمكتسبات لقيادات الجماعة أو لتوسيع شبكتها التجارية والتنظيمية حتى تم اعتمادها غربياً كشريك يمكن الاعتماد عليه لعبور المصالح الغربية والاتفاقات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه التحديد.
كانت البداية مع بريطانيا واستخباراتها في مصر أثناء التاسيس الإخواني، ثم تطور الأمر إلى الاستخبارات الألمانية وإنشاء مسجد ومركز ميونيخ، ثم العمل مع الاستخبارات الأمريكية في حرب أفغانستان، وحاليا تحاول تقديم أي أوراق اعتماد لدى الإدارة الأمريكية الجديدة لاستعادة بعض نشاطها الذي تلاشى عالمياً في العشر السنوات الأخيرة تحديداً.
منذ العام 2012 واتجاه الجماعة كي تكون ورقة حصرية بيد الاستخبارات التركية في ظل عدم وجود طلب عالمي لخدماتها المعهودة من دول أخرى، وما بين هذا الدور وتلك الخدمات هناك الكثير من الدول والمنظمات والجماعات الإرهابية التي وظفت الإخوان لبعض أعمالها بشكل ما، والسؤال المهم هنا كيف استطاع قادة الإخوان تطويع هذا القطيع الكبير شرقا وغربا لهذه المهمة؟، وكيف تم استثمار طاقة الناس من البسطاء في هذا التوجه؟ وكيف كانت الشوارع تمتلئ بالجموع والهتافات لقضايا لم تكن في صميم حياتهم، بل كان واضحا انها أجندات يدفعون اليها دفعا للخروج إلى الشارع دون دراية؟
وللإجابة على هذه الأسئلة ينبغي معرفة الطريقة التي تدار بها الجماعة والتنظيم الدولي والقائمة على السمع والطاعة دون جدال ارتكانا إلى فضيلة القيادة المؤتمنة، وقاعدة البيعة.
لقد سهل النظام الفردي وقيام الجماعة على مركزية المرشد ومكتب الإرشاد في تطويع الجماعة بسهولة لهذا الدور.
ولا يزال الإخوان يعملون بنظام المرشد والتنظيم السري الذي يدير أي شأن للتنظيم والدولة التي يقبضون على معظم مقدراتها وقرارها، كما هو الآن في اليمن في بعض المناطق المحررة.
فمنذ حسن البنا والسكري وقطب كانت قناعة المؤسسين أن العمل السري هو الأهم والأكثر أمناً.
ورغم الزعم الإخواني بأنهم أصبحوا حزبا سياسيا مكتمل المعالم إلا أن الواقع يكشف كل يوم هذه الاكذوبة، حيث لا يزال شخص المرشد الإخواني مثله مثل المرشد الإيراني والولي الفقيه هو المسيطر، ذلك أن هذا الأمر في صلب النظرية الإخوانية القائمة على البيعة والسمع في المنشط والمكره حد صيغة البيعة الإخوانية المعمول بها حتى اليوم.
صحيح أن كل فرع لجماعة الإخوان في أي بلد له صلاحياته المنفردة عن التنظيم الدولي إلا أن الخط العام واحد والتوجهات الكبرى موحدة والخطوط العريضة هي ملتقى كل فروع الإخوان في العالم.
ومن ضمن هذه الخطوط العريضة العلاقة التاريخية للاستخبارات البريطانية بالتنظيم منذ أول دعم قدمته بريطانيا للجماعة في مصر كمصروفات التأسيس وهو مبلغ خمسمائة جنيه والذي كان في حينها يساوي الكثير ويكفي لشراء نصف أراضي الإسماعيلية موطن حسن البنا، بحسب تحليل أحد الباحثين.
هذا المبلغ تلاه مبالغ أخرى قدمتها استخبارات بريطانيا للبناء والتكوين، وكانت هذه الأموال السبب في صراع بين الرجل الأول حسن البناء، والثاني أحمد السكري وتجميد الثاني لاعتراضه على بعض الممارسات أو ربما على كيفية صرف المبلغ.
ومن الأهمية هنا الإشارة إلى أن من الخطوط العريضة في أجندة الإخوان هو ال “برجمتيك” أو ما يمكن وصفه بالرمادية في كل المواقف والتشبيك مع الشيء وضده، كما هو حاصل تماماً مع علاقتها بالمملكة السعودية وقطر ومع تركيا وإيران والتحالف مع الجميع.
هذه الخلطة الغريبة، وهذه الانتهازية ليست سلوكاً عابراً، إنما هو طريقة وسلوك وباطنية معمول بها في سلوك التنظيم منذ 1928 حيث لحظة التأسيس والانفجار الإخواني المميت الذي لا يزال يخلف الصراعات تلو الصراعات شرقا وغربا وتتوالد من جثته كل جماعات الموت والأحزمة الناسفة، وجماعات الارتزاق الدولي.
اللحظة التي تعيشها الجماعة حاليا عالميا هي لحظة ضعف بعد قطع رأس الأفعى في مصر، لكنها تحاول التعويض في بعض دول أوروبا منطلقة من تركيا، كما أنها تنقل مركز الثقل العربي إلى اليمن، لطالما كانت اليمن هي الموطن الثاني للإخوان عند اشتداد الأمر عليهم بمصر بل كانت مأوى القيادات الكبرى للجماعة للتخفي والحصول على دعم وجوازات سفر وملاذ آمن.
وقد عبرت كل قيادات الإخوان ومرشدوها إلى اليمن لفترات طويلة من محمد مهدي عاكف وبديع والشاطر وغيرهم الكثير وقضوا الكثير من السنوات يديرون التنظيم من اليمن بكل أريحية.
وتشكل مأرب حاليا مقرا رئيسا لبعض هذه القيادات في تخف شديد تليها تعز، ولا يعلم أحد من هي القيادات الشاردة والمخفية، لكن قطعا هناك منها من تسرب إلى اليمن لا سيما التي لم توفق في الهروب إلى تركيا وبعضها غادر اليمن بجوازات مزورة بأسماء يمنية وهويات يمنية.
وإذا كانت تركيا هي الراعي الحالي للإخوان اليوم مدعومة بالمحفظة القطرية فإن اليمن تشكل حضورا نوعيا في الذهنية الإخوانية، لإعادة ترتيب أوراق الجماعة عربيا، بعد الرفض الشعبي الكبير لها الذي كانت الثورة السودانية آخر تجلياته، والذي يتوسع في تونس كونها آخر دولة عربية لا يزال الإخوان فيها على مقاعد الإخوان، بالإضافة إلى اليمن إذا ما استثنينا بعض المشاركة لهم في المغرب التي تقول الأحداث إنها في طريق إلى زوال، هذا السقوط المريع نتيجة حتمية للسقوط الأخلاقي والانتهازية العابرة للقارات، وتراكم نقاط الجريمة والفساد والكذب والتحايل والأرتزاق، صحيح أنها أخذ وقتا طويلا لكن هذه طبيعة الجماعات الدينية في كل الأرض التي غالبا لا تسقط بالضربة القاضية ولكن بتراكم النقاط السالفة وغيرها والتي تأخذ مداها من لحظة الظهور حتى الانكشاف وسقوط اوراق التوت
خمسون عاماً وتزيد كانت جماعة الإخوان محور الصراع السياسي العربي وفي قلبه وكل أحداثه، لكن هذا الأمر تغير منذ العام 2013م، وبعد الفشل الإخواني المشهود عندما وصلوا للحكم بعد أحداث الربيع العربي، فقد تخيل الإخوان في لحظة ما أنهم وصلوا إلى لحظة التمكين الأخيرة وأنهم في زمن التمام، فكان بعد هذا التمام النقصان حتى الخسران الاخير.
ولعل التوصيف الدقيق للجماعة اليوم أنها جماعة في مزاد الاستخبارات ليس إلا وينال الأتراك الحظ الأوفر من خدمات الجماعة كموظفين بالجملة لقطيع عريض في خدمة مصالح حزب العدالة التركي واردوغان والتي لا تشكل قطعا مصلحة الأمة التركية، إذ ليس في صالح الشعب التركي الدخول في هذه الخصومة والحرب مع الشعوب العربية، لكن الإخوان استطاعوا جر الأتراك إلى ذلك تحت دوافع انتقامية لن يكتب لها نجاح مع تقادم السنوات. وبوادر تخلي تركيا عنهم أصبحت وشيكة بعد الإشارات الخضراء التي يطلقها اردوغان الى مصر والخليج بأنه مستعد لتغيير نهجه والتخلي عن خدمات الجماعة التي ارهقته وتركيا معا وجلبت الويلات للشعب التركي…
و في لحظة سقوط اردوغان سوف يسقط معه الإخوان حتما كي يبحثوا عن استخبارات أخرى يقدمون إليهم خدماتهم، لكن الأوراق التي يمتلكها الإخوان حاليا لم تعد كافية لقبول خدماتهم لدى امريكا او بريطانيا أو المانيا، فقد فقدوا حضورهم الشعبي الذي كان يساعدهم في عرض مثل هكذا خدمات، مقارنة بما كانوا عليه منذ الستينات حتى العام 2012، وسقوط اوردغان يعني سقوط مشروع الإخوان من دهاليزه العالمية كي يتموضع في حجمه الطبيعي كجماعة أشبه بالجماعات الدينية، بعيدا عن أسطورة الإسلام السياسي الذي كان يراه الغرب بديلا مناسبا للتعاطي معه في بلاد المشرق كي يمرر عبره مصالحه ومشاريعه الكبرى في المنطقة…
لقد عاش الإخوان طويلاً بالشعارات الفضفاضة، دون أي تفاصيل عملية الرؤية لبناء دولة ولم يقدموا سوى اوهام وغيبيات خارج حركة التاريخ مبنية على استغلال واستغفال العاطفة الجمعية لجموع البسطاء وقليلي الحظ من التعليم.
ولعل مشروع الإسلام السياسي اليوم برمته على وشك الاحتضار، متمثلاً في “جماعة الإخوان” وسيأخذ نصفه الآخر مدى زمنيا غير بعيد، وأقصد هنا الاسلام السياسي الشيعي في إيران والولي الفقيه، أما الامتدادات التي صنعها كحزب الله والحوثي والحشد، وغيرها ستسقط تباعا.
ولعل ما يحدث في العراق ينبئ أن ذلك عاجلا أو آجلا سيكون وعشر سنوات أو أكثر ليست طويلة في تاريخ الشعوب.
لقد أخذت جماعة الإخوان تسعين عاما منذ الظهور حتى الانكشاف الكبير، وهي اليوم منبوذة أكثر من أي جماعة أخرى شعبيا وإقليميا ودوليا، والاستخبارات التي استهلكتها لم يعد يعنيها الأمر شيئاً، لقد فقدت أوراق اعتمادها لديها، لم يعد الامريكان بحاجة للإخوان للذهاب لحرب أفغانستان وليسوا بحاجة أن يقدموا للإخوان شيئا كي يسوقوهم إلى الوقوع في هاوية الحبائل الأمريكية.
لقد سوق “الإخوان المسلمون” أنفسهم كضحية مقموعة من قبل الأنظمة، وأنهم البديل الأنسب المرضي شعبيا والقادر على تقديم شيء للشعوب وللغرب وكلف هذا الترويج دويلة قطر أكثر من مائة مليار دولار خلال سنوات قليلة، لكن كل هذه الحذلقة سقطت سريعا…
ذلك أن العرب نفضوا أيديهم من مشاريع جماعات الله باثوابها السنية والشيعية وكفروا بها جملة واحدة باعتبارها ملة واحدة..