عبده سعيد قاسم:
مثلما أختزل الشاعر العربي والإنساني الكبير
” محموددرويش” لدى قطاع واسع من القراء في قصيدة ” بطاقة هوية ” وكما اختزل جورج امادو في رواية” دروب الجوع”
والبردوني لدى كثير من العامة في قصيدة
ابوتمام وعروبة اليوم
والمقالح في سطر واحد لابدمن صنعاء
واحمد شوقي في نصف بيت من قصيدة” قف للمعلم”
اختزلت ايضا الفنانة الشعبية الكبيرة الراحلة” منى علي ولا وجه للمقارنة بين اولئك العظماء وبينها لكنها كانت فنانة تطرب القلوب “ومثلما اختزل اولئك في بعض من قصائدهم اختزلت الفنانة منى علي في اغاني الزفة رغم انها غنت غير اغاني الزفة اغان كثيرة عن الزراعة والسفر والحب والهيام والاغتراب.
صحيح انها لم تغن لشاعر بعينه ولم تحظ بملحن معين وليس هناك مصادر تحدد شاعرا او ملحنا تعاطى معها فإفصاح المرأة عن لواعج الشوق وحكايا يات الغرام كان امرامعيبا في نظر المجتمع وربما ذلك يمثل سببا لعدم معرفة الشاعر لكنها وبصوتها النسائي الرقيق الساحر صدحت بما وصل اليها من التراث والمهاجل الشعبية ماجعلها رائدة في الغناء الشعبي وخاصة في اخر عقد الستينات وعقد السبعينات وواجهت بشجاعة نظرة المجتمع للمرأة المغنية
فهي من مدينة العدين الواقعة على احدى ضفاف وادي عنة الخصيب هذا الوادي الغزير الذي يغسل اقدام الجبال برحيق الغيوم ونبيذ الأصائل المطيرة
في مديرية العدين تلك المنطقة الزراعية الملهمة والتي يقول بعض الباحثين انها تعتبر المنطقة الثالثة بعد حضرموت ولحج في انتاج اغاني الزراعة ومهاجل الترحيب بمواسم المطر واونة الحصا
فكما هو معلوم ان المجتمع الريفي هو مجتمع إنتاجي وكل فنونه المختلفة تعكس طبيعة عمله وتخدم علاقات الانتاج القائمة فيه لذلك فمديريات العدين الاربع هي منبع معظم التراث الزراعي من اغان ومهاجل وملالاة بل ويكاد معظم التراث الشعبي لبعض المديريات التابعة لمحافظة تعز هو من تراث العدين مثل شرعب بمديريتيها والتعزية ومقبنة وحتى لحن الزفة التي غناها كثير من الفنانين ومنهم الراحل علي الانسي وقد ذكر البردوني في كتابه فنون الثقافة الشعبية ان الفنان علي بن علي الأنسي لم يوفق في اداء الزفة العدينية مصحوبة بعزفه على العود وان تلك الزفة يليق بها الناي فتمديداتها الطويلة تناسب تاوهات الناي المديدة ولا تصلح لأوتار العود التي تقتضب اللحن بأنفاس لاهثة
من هناك من العدين جاءت الفنانة الراحلة منى علي المولودة عام١٩٣٥ وفقا لرواية المدير العام السابق للعلاقات العامة في ديوان محافظة تعز الصديق عبداللطيف القاضي فقدكان مهتما بالفنانة الراحلة كثيرا وذكر لي عند وفاتها بعد ان التقى بأختها ان اسمها الحقيقي هو غانية وان اسم منى هو اسم فني من العدين جاءت واحتلت موقعا متقدما في ساحة الغناء اليمني في اخر الستينات وكل عقد السبعينات من القرن الماضي ومثلما هي حاضرة اليوم في كل الأعراس كانت حينذاك حاضرة في ليالي العشاق وصباحات القرى المزخرفة ببريق الطل ولألئ الندى المنهمرة من مشاقر الريحان المنتصبة على خدود صبايا القرى مثل عصافير أسرج لها الفجر أحصنة الضؤ فتوثبت للرحيل الى مهرجان الفرح الصاخب بنشوة البكور ومهاجل الفلاحين وأساطير العشق وأحاديث السمار العالقة في شرفات البيوت وقضبان النوافذ
وكانت ملالاتها فاتحة العمل اليومي بالحقل ومبتدأ التعبير عن لواعج الغرام واتقاد الشوق للقياء في أفئدة العشاق وبصوت أنثوي حزين النبرة ترافقه نغمات العود واهات الناي كانت تغني بملالاتها البديعة:
يالله رضاك والشمس الى عيوني
كتعبير عن حال الفلاح وهو يحرث الارض اويجني المحصول مستقبلا جهة الشرق وتعرض عيونه لأشعة شمس الصيف القائظ ولإن عشق الارض ممتزج حد التماهي بعشق الحبيب خاصة في وجدان القرى
فهي تردف متسائلة
اينه حبيب قلبي لتحرموني
ثم تكمل تلك المقطوعة الخلابة بصوت شجي تلفه احزان اليتم ومواجع الفراق
يالوالدة لوتعلمي لحالي
تبكي النهار وتسهري الليالي
ياليتني حجري بمدرب السيل
ماحد يقلي لاشرق ولا ليل
فهي تعبر عن حال اليتامى وتغني لهم وتصدح للفلاح ورعاة الماشية و للعشاق ايضا وتحث ذوي الاعمال للنهوض باكرا ومباشرة اعمالهم
من مشورة عرف الهواء يشوق
يوم الخميس ملعون من يشرق
ويشرق بمعنى يتأخر في الذهاب الى عمله
لقد طغى صوت الرجل في مجتمع يتبرم من المرأة ويعتبرها عورة جسداً وصوتا وضاعت في خضم هذا التمييز الناتج عن تدني الوعي أصوات نسائية كثيرة
مثل الفنانة الشعبية أمينة حزام وصباح عطيبا
ونبات احمد ونجاح احمد وتقية الطويلية ورجاء باسودان وفتحية الصغيرة ونجيبة عبدالله وغيرهن
رغم ان الفنانة نجاح احمد حققت تقدما ونتاجا جميلا بغنائها مع الانسي لقصيدة الشاعر البردوني اليوم ياتاريخ قف وغنت مع الفنان محمد الحرازي اغانٍ كثيرة وبابداع وتميز
لكن فنانتنا منى علي هي التي احتفظت بسطوة الحضور البديع من خلال اغاني الزفة التي ستستمر باعتقادي أمدا طويلا تتصدر مناسبات الاعراس حتى تاتي اغنية او مغنية اكثر اطرابا واجد ابداعا
فبعض الإبداعات تظل حاضرة بقوة لانها تحتفظ بسيرورتها الناتجة عن أمرين
اما وأنها بديعة حد الاسطورة
او ان الساحة الإبداعية والفنية عقيمة ولم تنجب عملا ابداعيا فنيا يتجاوز ما قبلهنتيجة بحث الصور عن الفنانة منى علي
وساضرب هنا مثلا على ذلك ،في اغنية الراحل علي بن علي الانسي
انستنا ياعيد من كلمات الشاعر عباس المطاع فلاتزال هي اغنية العيد المعتمدة والاكثر تعبيرا عن العيدفنحن حين نسمعها نحس بأجواء الفرح العيدي وتطل ذكريات العيد من شرفات العمر تعيد تمرير اشرطة الطفولة والشباب في اذهاننا الكهلى رغم ان هناك فنانون كثر غنو للعيد ومنهم احمدالمعطري بأغنيته أشرق هلال العيد وهل نوره وغنى عبد الباسط عبسي ايامك حلوة ياعيد ياعيد والكبسي ومحمد الحرازي بصوته العذب
ايوب طارش وحده وكعادته تجاوز المألوف وذكر العيد في سياق اغنية حزينة باكية”العيد اجا كيف السرور ياعيد خلي بعيد مافائدة من العيد”
وكل من غنوا للعيد جاءات اغانيهم خافتة بالمقارنة بسطوع اغنية الأنسي
لذلك لا اعتقد ان هناك فنانا لم يغن اغنية الزفة وفي مقدمتهم الفنان العظيم الذي ملاء الآفاق لحنا ونشيدا ايوب طارش غنا رشو عطور الكاذية وصبايا وملاح وبسم الله لا الله العلي والفنان احمد السنيدار يا بنات ارقصين غنين وزفين العروس الزين وغيرهم لكن زفة الفنانة منى علي هي الأقوى تأثيرا على الروح وافصح تعبيرا عن فرح العروسة وحزنها لفراق أسرتها في ذات الوقت حتى ان الذي يصغي لزفتها يحس انها تبكي وتبكي
حين تغني على لسان العروسة وكأنها تخاطب من جاءو لنقلها في موكب زفاف من بيت ابيها الى بيت زوجها
عادني اودع خواتي وابن اخي الطفل الصغير
أودع الحجرة والاجبي خاطرك يابيت ابي
عادني يا اماه صغيرة عادني يابا قليل
والله العظيم ما اخطي ولا اسير حين دموع امي تسيل
وهنا يتجلى الابداع الشعبي الشاهق في كلمة عادني يابا قليل فبإمكان الانسان ان يصف آويقول عن اي شي انه قليل او كثير الا عن الانسان فهو اما صغير او كبير وعندما تصف شخصا انه كثير فذلك لتعظيم قدره مثلا شاع في الوسط الادبي في بلادنا خلال التسعينات لقب الرجل الكثير بوصف الاديب الكبير الراحل محمد حسين هيثم رحمه الله لانه كان قامة شعرية وادبية تملأ الآفاق
فكما يبعث صوتها في الزفة على الزغاريد ومشاعر الفرح يستدعي الأسى والحزن ويستدر الدموع من العيون ايضا
ليت ابويك يطلع يزورك ويعين مشقرك
من جبر هذي اليتيمة جبر الله خاطره
وكأنها تخاطب او تعبر عن حال عروسة يتيمة يتمزق فوأدها لغياب ابيها عن هذه اللحظة الفارقة المقدسة في حياتها مانحن في صدده في هذه الفعالية هو أغاني غير الزفة و الفنانة منى علي غنت منها الكثير فقد بدأت تمارس هواية الغناء او تحترفه في النصف الاخير من عقد الستينات حسب بعض المصادر اي بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وبدءانفتاح بلادنا على الدنيا وبدء سريان الحياة العصرية في شرايين الوطن اليمني واستقدام السيارات ووسائل الحياة مثل الكهرباء وغيرها فقدكانا الأدب الشعبي والغناء الشعبي يعكسان بالضرورة وقائع الحياة بتفاصيلها الدقيقة وكانت تتجمع الخواطر التي يقولها من لديهم ملكة الابداع والبديهية في التقاط مشهد او صورة ما وصياغته بلغة شعرية شعبية تخاطب الوجدان ويتناقلها الناس كمقولات وأمثال وأغاني
ومهاجل زراعية
ومنها ان الفنانة منى علي في واحدة من اغانيها تذكر البوابير
شحن لي بالليل والنهارة
ماحن بابور في نقيل سمارة
صافي البدن اتريك جديد وردي
شفندك واسمر عليك وحدي
يستوجب الامرمنا التوقف لشرح هذا الشطر من البيت الاخيرة المغناة
صافي البدن اتريك جديد وردي
شفندك واسمر عليك وحدي
كانت الكهرباء في الخمسينات ربما منعدمة باليمن وبالذات مناطق الشمال وكان الناس يعتمدون في الاضاءة على الفوانيس واتاريك بترومكس التي كانت تعمل بالجاز هذه الاتاريك كانت تضيء بسطوع يستخدمها أولي المكانة الاجتماعية الرفيعة والتجار وكان للاتريك قرص دائري في نصفه الأسفل وكلما خفت ضؤه يقوم الشخص بتحريك ذلك القرص الدائري شمالا اوجنوبا ليزيل الشوائب التي تسد مجرى بخار الوقود فيعود الضؤء الى صفائه وسطوعه وهنا الشاعر شبه سطوع وجه الحبيب كسطوع ضؤ الاتريك ولم ينس ان يفنده ايضا ليبقى ساطعا
يملاء زوايا الروح نورا
وفي مطلع السبعينات كان يقوم الشباب من الذكور والاناث بحلية واحدة من اسنانهم او اكثر بحلية ذهبية لغرض الزينة او لاخفاء تشوه في الأسنان فقال الشاعرالمجهول وغنت منى علي سنك ذهب ومبسمك لامع
وضحكتك نايلون وسط جامع
بطبيعة الحال ان الادب بمختلف انواعه وأصنافه ومدارسه يعكس الواقع الاجتماعي ويستمد منه ابداعه وتفاصيله ويعبرعنه ويستدعي مستقبلا جديدايحاكيه الشاعر بخياله الرحب الواسع فمثلا ازدهرت اغاني الاغتراب عندما بلغ اغتراب اليمنيين أوجه بعد ارتفاع أسعار النفط في الخليج
بعد حرب العبور عام 73 حيث بلغ سعر البرميل ٤٣ دولارا لأول مرة في تاريخه وفتحت دول الخليج ابوابها للعمالة اليمنية نتيجة احتياجها لمن يشيدلها البنى التحتية فذهب معظم اليمنيين الى هناك لغرض العمل وتوفير مستلزمات الحياة واستلهم الشعراء وجع الاغتراب وتباريح الليالي ومنهم الشاعر الدكتور سلطان الصريمي وكتب ملحمة
وعمتي منه شقول لمسعود
بعامنا الاول رزقنا مولود
وغناها الفنان عبدالباسط عبسي بصوته المثخن بالشجن والحزن المرير فابكى الأفئدة وهيج مشاعر المغترب البعيد للعودة الى الديار واحضان الأحباب
ان تلك المرأة الراقدة الان في مقبرة كلابة بمدينة تعز الجريحة النازفة سطرت تاريخا فنيا احتل النسق الاول في معركة العشق لسنوات عديدة
ولان لكل مرحلة زمنية لونها الغناءي والشعري ولكل جيل ذوقه وذائقته المواكبة للتطور فقد كادت اغاني هذه الفنانة ان تمحى ويطويها النسيان كما طوت اصوات نسائية كثيرة ممن جايلنها في الغناء بمرحلة زمنية واحدة ومنهن صباح عطيبا والتي اثرت الذائقة الشعبية بكثير من الغناء بصوتها الجميل ولم يتبق من اغاني الراحلة منى علي غير اغاني الزفة لأسباب ذكرتها سابقا
لم نعد نسمعها وهي تغني ياعطشي والماء رادش برادش والمكعبات مايرحمين عاطش
و يامرة القهوة وهي محوج
يوم اعلموني ان الحبيب تزوج
وبصوت دفاق كتدفق الأنهار في وديان وسهول العدين
غنت اغنية مشتركة مع الفنان ايوب طارش وهي اول اغنية من شعر الفضول يغنيها ايوب ” رح لك بعيد رحلك معاداناش لك”
وغنت مع الفنان الراحل علي عبدالله السمة اغنية “كون بطل الوسواس والشك ياحبيبي بلحنها البديع
وغنت اغنية السمة الاب حبيبي شاتسير ودعتك الله
وغنت من التراث الشعبي الكثير والكثير
ياغائبين غيابكم عننا طال
بالله أبعثو مكتوبكم نعرف الحال يامعين
وغنت
تعز تعز خضراء والغيل سراح
بقدرة الله نجتمع ونرتاح
لكن اغاني الزفة هي الأكثر حضورا واكثرتداولا حتى كادت او انها استطاعت ان تختزل صاحبتها بها وتمحو كل ماغنته من غير الزفة رغم كثرته
انني كواحد ممن استمعوا لأغاني منى علي كثيرا من غبش العمر حتى عهد قريب ادعوا الجهات المعنية الحكومية والأهلية الى توثيق اغاني هذه الفنانة الكبيرة وغيرها من الفنانات اللواتي ابتلع الضياع نتاجهن وطوى النسيان ابداعهن
انني اخشى ان يضيع جزء كبير ومهم من تراثنا الشعبي خاصة المغنى بأصوات نسائية كما ضاعت اعمال ادبية نسائية كروايات الروائية الراحلة زهرة رحمة الله والأعمال الأدبية والفكرية للمفكرة اليمنية أبكار السقاف التي عاشت بمصر وسجلت حضورا متقدما في الانتاج الأدبي والفكري ،ويقول مهتمون كثر ان كثير من اعمالها تعرض للسرقة والضياع.