تعز اليوم
نافذة على تعز

رقصة “العُبدي” في القطيع: ملحمة فولكلورية تختزل ذاكرة التحرر من العبودية

أيوب هادي-“تعز اليوم”:

في قلب تهامة، وعلى تخوم الجغرافيا الجنوبية الغربية لليمن، تتجلى رقصة “العبدي” كواحدة من أبلغ التعبيرات الثقافية الحيّة التي تختزنها مدينة القطيع بمحافظة الحديدة. هذه الرقصة الشعبية، التي تمتد جذورها إلى ما يزيد عن قرنين من الزمان، لم تعد مجرّد استعراض فولكلوري يُؤدى في المناسبات؛ بل غدت طقسًا متجذرًا في الوعي الجمعي، وموروثًا ثقافيًا ضاربًا في عمق التاريخ المحلي، يروي قصة تحرر وبطولة واحتفاء بالهوية.

 

رقصة تتجاوز حدود الترفيه

 

تُؤدى رقصة “العُبدي” جماعيًا، ويشارك فيها عدد من الرجال يصطفّون في صفوف متراصة، حاملين عصيًا بأيديهم، يؤدون حركات إيقاعية متزامنة على وقع قرع الطبول، بينما تتعالى الأصوات بترديد مقاطع شعرية شعبية ذات طابع حماسي. غير أن ما يمنح الرقصة خصوصيتها الاستثنائية هو طابعها الرمزي، الذي يتجاوز حدود الأداء الجسدي ليحاكي مشهدًا دراميًا مستلهمًا من الذاكرة الجمعية.

 

ففي ذروة الرقصة، وعقب سلسلة من الحركات الإيقاعية أمام الطبول، يتلقى المشاركون إشارة من شخصية تُعرف بـ”الأمير” – وهي شخصية محورية في طقس الرقصة – للانتقال إلى ساحة أوسع، تُجسد رمزيًا ساحة قتال. هناك، يتبارز المشاركون بالعصي في مشهد يجمع بين الحذر والمهارة، ومن يخسر المبارزة يتم تخضيبه بالرمال، تعبيرًا عن الهزيمة، قبل أن يعود الجميع إلى نقطة البداية، حيث تُختتم الرقصة كما بدأت.

 

جذور تاريخية ومعانٍ تحررية

 

وفقًا للباحث والمهتم في شؤون التراث والموروث الشعبي أيوب أحمد هادي، أحد أبناء مدينة القطيع، فإن رقصة “العُبدي” ليست مجرّد استعراض حركي، بل هي محاكاة لقصة واقعية تعود أحداثها إلى أواخر القرن الثاني عشر الهجري، حين قام أحد سادات المنطقة – كما يُروى – بإعتاق مجموعة من مواليه. واحتفاءً بهذا الحدث الفارق، خرج المولى المحرّرون يؤدون رقصة تعبيرية تجسّد لحظة الفرح والانعتاق من قيود العبودية، لتتحول لاحقًا إلى رقصة جماعية سنوية ذات طابع رمزي، تعبّر عن معاني الكرامة، والمقاومة، والانتماء.

القطيع… مدينة تحتفي بإرثها

 

وتُعد رقصة “العُبدي” العنصر الأبرز في مهرجان القطيع السنوي الذي يُقام في اليومين الثاني والثالث من عيد الأضحى المبارك، حيث تُخصص ساحات شعبية في المدينة لإحياء هذا الحدث الثقافي الفريد. وتتحول المدينة خلال هذه الأيام إلى مسرح مفتوح يحتفي بالتراث، وتُستدعى فيه ذاكرة الأجداد، وسط حضور جماهيري واسع من أبناء المنطقة والزوار، ما يمنح الرقصة طابعًا احتفاليًا واجتماعيًا يعزّز من مكانتها كركيزة من ركائز الهوية الثقافية للمنطقة.

 

ورغم القيمة الثقافية والتاريخية لرقصة “العُبدي”، إلا أن هذا الموروث الشعبي لا يزال خارج دائرة الاهتمام الرسمي والتوثيق الإعلامي، وهو ما يدق ناقوس الخطر بشأن استمراريته في ظل التحولات الاجتماعية المتسارعة، وتراجع الاهتمام بالفنون التقليدية. من هنا، تبرز الحاجة الماسّة إلى قيام المؤسسات الثقافية والإعلامية بدورها في توثيق هذا الإرث، ودعمه، والتعريف به محلياً ودولياً، باعتباره جزءًا من الذاكرة الوطنية اليمنية، وأحد أبرز ملامح التنوع الثقافي في تهامة.

 

ختامًا،ليست “العُبدي” مجرّد رقصة، بل هي قصيدة حركية تُروى على إيقاع الطبول، وتُجسّد تاريخًا من الفداء والإرادة والفرح. إنها مرآة لروح القطيع، ولسان حال أبنائها، وموروث يستحق أن يُروى، ويُحفظ، ويُحتفى به كجزءٍ من كنز الهوية التهامية واليمنية على حد سواء.

قد يعجبك ايضا