تقدير موقف .. غاز شرق المتوسط وسيناريوهات حرب لبنانية – “إسرائيلية”
متابعات – تعز اليوم:
احتمالات الحرب
لم تواجَه سيناريوهات الحرب بين لبنان و“إسرائيل”، وهي كثيرة في الماضي، بمثل التسليم القائم بوقوعها خلال أسابيع وربما أيام؛ فموعدها يكاد يكون معلنًا في منتصف أيلول/ سبتمبر، والشرارة التي ستوقدها، تومض جمراتها تحت مياه المتوسط في قلب مثلث الغاز والنفط اللبناني – الفلسطيني المحتل، عند الخط الممتد من رأس الناقورة في قلب شرق المتوسط. وديكورها هو أيضًا يتوسط منابع الغاز والنفط حول الخط 23 لحدود منطقة المصالح الاقتصادية اللبنانية – الفلسطينية التي ينهبها الاحتلال الإسرائيلي، وتبدو الحرب المقبلة قدرًا لا مرد له، بفعل تناسل عناصر اشتعالها إلى حد ذهاب المحللين والخبراء إلى التنبؤ بديمومة لها لا تتعدى الأيام، كي يفرغ المتقاتلون فيها من تحقيق أهدافهم.
حتى إن ساعة الصفر تبدو معلقة على تصميم “إسرائيل” على تجاهل الحقوق اللبنانية في منطقة متنازع عليها، وإعلانها من دون تفاهم مسبق بدء عمليات استخراج الغاز من حقل كاريش منتصف أيلول/ سبتمبر، ومحاولة الاستيلاء على أجزاء من المربع الثامن اللبناني في هذه المنطقة، ومقاسمة لبنان مكامن الغاز في حقل قانا، في الوقت الذي يلوّح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بقراره قصف المنصة عندما تبدأ توربيناتها بالعمل من دون انصياع “إسرائيل” لمطالبه، في حين يرد الإسرائيليون حتى الآن، بمحاولة كسب الوقت وتأخير ردهم عبر الوسيط الإسرائيلي، لممارسة أقصى الضغوط على لبنان الرسمي المنقسم حول خط التفاوض، وجدوى الحرب نفسها.
يمكن القول إن ديكور المسرح نفسه للقتال اكتمل إذا لم تتبلور التسوية التي يعمل على إنضاجها الوسيط الأمريكي آموس هوكشتين. ولم يبخل السيد نصر الله برسائل تؤكد جهوزيته وجدية لجوئه الى الحرب للخروج من حالة الجمود والمراوحة التي فرضها الثنائي الإسرائيلي – الأمريكي على المفاوضات التي تدوم منذ أكثر من 15 عامًا، لمنع لبنان من الاستفادة من موارده النفطية، كالمسيرات فوق منصة استخراج الغاز من حقل كاريش، وبث أشرطة إحداثيات المنصة في مرمى الصواريخ. ورد الإسرائيلي بإعلانه ربط الحقل بشبكة الصواريخ وأنظمة الدفاع البحري والجوي، وإعلانه الاستعداد لأيام قتالية ضد لبنان، وإعادة الترويج لعقيدة الضاحية التي صاغها رئيس الأركان الإسرائيلي غادي إيزنكوت، التي تعني تدميرًا كاملًا لبيئة المقاومة عمرانيًا واجتماعيًا وبشريًا في حصنها جنوب بيروت.
وليس بعيدًا أن نكون في الأسابيع، وربما الأيام المقبلة، أمام مشهد حرب معلنة، مع تضافر كل العناصر المؤدية إليها، من دون أن يكون ذلك مفاجئًا لأي من الأطراف على ضفاف المتوسط الشرقي، إذا ما نفّذت “إسرائيل” تهديدها ببدء استخراج الغاز، دونما أي حسبان للمطالب اللبنانية.
لبنان وخيار الحرب
ما هي أوراق المقاومة في المبادرة لإعلان الحرب؟ إزاء الضعف المعهود للدولة اللبنانية ومؤسساتها وخضوعها للتهديدات الأمريكية، كمثل تخليها عن إيداع الأمم المتحدة خريطة تطالب فيها بمنطقة المصالح الاقتصادية اللبنانية مع الخط 29 الأعلى للتفاوض، الذي يضع لبنان في جزء من حقل كاريش، والبحر الفلسطيني، بات السيد حسن نصرالله المفاوض الحقيقي الذي يمسك بدفة الأحداث مشترطًا ليس حصول لبنان على كامل حقل قانا فحسب، وفق رسم متعرج للخط 23، لا بل عدم التنازل أيضًا عن أي شبر من المربع الثامن الذي تطالب “إسرائيل” بحصة منه، ورفع سقف مطالبه إلى اشتراط منح لبنان ضمانات أمريكية لاستقدام شركات لاستغلال ثرواته الغازية وحصانتها من أي عقوبات تفرغ الترسيم المنشود من محتواه.
الورقة الأولى: لأول مرة منذ حرب تموز/ يوليو 2006 ربطت المقاومة سلاحها ووظيفته الوطنية بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ووقف الانهيار المالي وإعادة الاستقرار الضروري لعمل المقاومة على الجبهة الداخلية ضد “إسرائيل”، وإنقاذ لبنان بكامله من التفتت الذي تتسبب به شبكة واسعة من العقوبات الأمريكية منذ 15 عامًا. وهي ورقة تكتسب شبه إجماع، رغم المزايدات التي تصيبها من خصومها في الداخل. ويبدو المشهد اللبناني الداخلي بأكمله مشهدَ من لا يملك ما يخسره في أي حرب مقبلة، بل إن البديل الوحيد الذي لا يخطئ هو استمرار الانهيار الاقتصادي الاجتماعي من دون قعر.
الورقة الثانية: قدرة المقاومة على إلحاق أضرار كبيرة ومهمة بالكيان الإسرائيلي، وتهديد بنيته التحتية النفطية والغازية، ومنع الشركات العالمية من العمل في البحر الفلسطيني.
الورقة الثالثة: عدم رغبة الكيان الإسرائيلي في الدخول في حرب مع المقاومة، لا يبادر هو إليها، وتكون سريعة وخاطفة ومفاجئة، ولا يقرر موعدَها ولا ساحتَها، ولا مدتها كما كان عهده في كل حروبه السابقة كي لا تتحول الى حرب استنزاف، باستثناء حرب تموز/ يوليو، واختلال ميزان المخاطر لمصلحة المقاومة، في اختيار المقاومة قرار الهجوم على كل المنصات الإسرائيلية من دون تمييز، في لحظة دولية منشغلة بالحرب في أوكرانيا، وتصعيد على كل الجبهات الاقتصادية العالمية.
“إسرائيل” وخيار الحرب
إن ما يدفع “إسرائيل” إلى تفضيل التسوية على خيار الحرب “ليس غريزتها السلمية أو نبذها للعنف” وإنما افتقارها إلى التوقيت المناسب، سواء في ظروفها الداخلية حيث يستنكف رئيس الحكومة يائير ليبيد عن إشعال جبهة لبنان عشية انتخابات برلمانية حاسمة لمستقبله السياسي، فضلًا عن تعرضه لضغوط المؤسسة العسكرية التي تطالبه بترك اللبنانيين يستفيدون من ثرواتهم، لأن هذا سيجعلهم أكثر معارضة لحزب الله مع استتباب أوضاعهم الاقتصادية، وإن الذهاب إلى الحرب ثم القبول بعدها بشروط السيد حسن نصرالله، سيمنحه نصرًا كبيرًا سياسيًا وعسكريًا. أو في ظروفها الخارجية في لحظة الحرب الأوكرانية التي جعلت من غاز المتوسط والهدوء حول آباره حاجة أوروبية ملحة، فليس سرًا أنه يصادف حربًا في قلب أوروبا نفسها بين روسيا وحلف الأطلسي في أوكرانيا، وهي حرب تدور على جبهة واسعة لإمداد أوكرانيا تضم 6 أعضاء من دول حلف الأطلسي في شرق أوروبا، ونيران تهدد بحر الصين الجنوبي وآسيا تستعر نيرانها على وقع الاستفزازات الأمريكية المنظمة للصين في مضيق تايوان. كما أن الأوروبيين لن يسرّوا برؤية النار تشتعل قرب أي قطرة غاز أو نفط وخصوصًا على الضفاف الشرقية للمتوسط التي باتت تشكل جزءًا من الأمن الطاقي لأوروبا.
وفي ساعة مجاعة أوروبية للوقود تحاول أوروبا إعادة تنظيم إمدادها بغاز بديل من الغاز الروسي، ولو بغاز شرق المتوسط على تواضعه؛ فعلى أبواب الشتاء الأوروبي، وبعد منع الروس أوروبا من استكمال ملء خزاناتها خلال الصيف، تبدو حقول قانا وكاريش وغيرها عظيمة الأهمية. رغم أن كل إنتاج شرق المتوسط لا يتجاوز 2.2 في المئة من الإنتاج العالمي. وذهب الأوروبيون، والفرنسيون تحديدًا، الى تقديم عروض غير مسبوقة إلى اللبنانيين، والإسرائيليين ضمنًا، إن هم جنحوا إلى التسوية، بالتسريع في عمليات استخراج النفط اللبناني والغاز، عبر شركة توتال، بعد مماطلة ومماشاة للضغوط الأمريكية منذ خمسة أعوام.
تمكّن محور المقاومة، حتى الآن، من احتواء “إسرائيل”، ومنعها من فرض هيمنتها على شرق المتوسط، والدخول إلى ساحة تقاسم ثرواته من بوابة حقل قانا، ليصبح لاعبًا يحسب حسابه، ليس في ترسيم الحدود فقط وإنما في عملية توزيع الحقول النفطية، وبناء شبكة الأنابيب التي ستربطها بالسوق الأوروبية لاحقًا، والتي ستكون معركتها أكبر كثيرًا، في ضوء الصراع الدائر لبناء منصات إعادة التوزيع في أوروبا، عبر تركيا، أو قبرص، واليونان. لقد دمّر دخول المقاومة إلى ساحة تقاسم الثروات أي سيناريو تأمله “إسرائيل” وأوروبا، للسيطرة على شبكة الإمداد، من خلال إحباطه كل مشاريع المشاركة في استغلال الغاز عبر شركات عربية قطرية أو إماراتية وسيطة تؤدي حكمًا إلى تطبيع الأمر الواقع النفطي مع الكيان الإسرائيلي المحتل. كما أحبط أي مشروع لسوق لبنان إلى تسويق نفطه وغازه عبر أي شبكة أنابيب، يمر فيها الغاز والنفط الفلسطينيان المنهوبان، ويضم هذه الأنابيب إلى الشبكات التي تتحكم فيها الولايات المتحدة، في المتوسط، في مواجهتها الجارية مع روسيا في أوكرانيا.
ويبدو كل شيء جاهزًا لإطلاق سيناريو الحرب، عندما تنطلق مضخات المنصة إينرجيان اليونانية لنقل الغاز في الساعات الأولى من منتصف أيلول/ سبتمبر، إلى شبكة الأنابيب الإسرائيلية، إذ أنجزت “إسرائيل” في آذار/ مارس الماضي أعمالَ الشبكة التي تنقل غاز كاريش إلى البر الفلسطيني المحتل، الذي يبعد 90 كيلومترًا من الحقل المذكور؛ في الوقت الذي تنهي “إسرائيل” حاليًا ربط المنصة العائمة للاستخراج والتخزين والتحميل بهذه الشبكة. من المفترض أن يبدأ الفنيون بضخ 630 مليون متر مكعب يوميًا، من كمية منتظرة مقدرة بـ 40 مليار متر مكعب، تصل قيمتها إلى 10 مليارات دولار، خلال ست سنوات من عمليات الاستخراج المقدرة لصلاحية كاريش. وهو موعد لا يمكن التراجع عنه، بعدما رفع السيد حسن نصرالله سقف خطابه إلى المستوى الذي يمنع التسويف والمماطلة، وسحب خيار تأجيل استخراج الغاز من كاريش، من يد الإسرائيلي، كحل يؤجل قرار الحرب، ويمتص التهديدات، وهو ما رد عليه الأمين العام لحزب الله، بأنه سيقصف كل المنصات الإسرئيلية في البحر الفلسطيني، الأمر الذي يجعل الحرب قدرًا لا مرد له.
أي سيناريو للحرب؟
يُجمع الخبراء والمحللون الإسرائيليون الجديون على سيناريو الحد الأدنى من القتال في مواجهة المقاومة، وأن الجيش الإسرائيلي من جانبه لن يُقدم على أي مبادرة قتالية ضد حزب الله، تاركًا للمقاومة أن تختار هي لحظةَ الهجوم والضربات الأولى. وبات خيار الأيام القتالية القليلة التي لا تتجاوز الأسبوع الواحد هو السيناريو الذي تروج له المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قبل إعادة لبنان إلى طاولة المفاوضات وفرض الاستسلام عليه للشروط الإسرائيلية. ويقول هؤلاء إن المؤسسة العسكرية ستذهب إلى الحرب إذا ما وقعت، ولكن الجميع سيسعى للخروج منها بسرعة. ولكن نحن في الشرق الأوسط، حيث لا يعرف أحد متى تنتهي الحروب عندما تبدأ.
يحاكي خيار الأيام القتالية المحدودة، نموذج العدوان الذي شنته “إسرائيل” ضد الجهاد الإسلامي في غزة، وحملة القتل ضد قياداتها. إلا أن هذا السيناريو سيكون من الصعب نقله إلى الجبهة اللبنانية -الفلسطينية، أو التحكم فيه، رغم غلبته على أي سيناريو آخر، نظرًا إلى اختلاف الحجوم والقدرات القتالية بين حزب الله والجهاد الإسلامي، وإلى العمق الاستراتيجي الكبير الذي يتمتع به حزب الله وامتداد خطوط إمداده إلى سورية، وحتى العراق. ويعكس هذا الخيار تراجع قدرة العدو على خوض مواجهات شاملة، طويلة المدى أمام خصم اختبره في تموز/ يوليو 2006، حين كانت قدراته القتالية والصاروخية والتقانية، لا تتجاوز 20 في المئة مما هي عليه الآن. كما يعكس أيضًا استمرار معادلة الردع لدى المقاومة، القائمة منذ 15 عامًا.
ويتقاطع الخبراء لدى المقاومة وفي كيان العدو الإسرائيلي على النظر إلى الأيام القتالية الأولى، بوصفها مسرحًا لعمليات تكتيكية ورسائل عسكرية غير قاتلة ولا توقع ضحايا كثر لدى الطرف الآخر، وهو ما يجعل التوقف عنها صعبًا، بل يركز الطرفان على ساحة “بحرية” للقتال أولًا، قبل الذهاب نحو قصف التجمعات السكانية الكبرى، تحاشيًا للذهاب نحو مواجهة شاملة وواسعة، ترجح خيار شمشون في النهاية.
يتفق الجميع على أن الانزلاق نحو مواجهة كبرى ستؤدي إلى تدمير متبادل وتكلفة بشرية وعمرانية غير مسبوقة، وهي العبارة الأكثر تداولًا في تقديرات الخبراء لنتائج مواجهة كهذه، وهي بالتالي الكابح لأي قرار بالذهاب نحو الحرب الشاملة.
تسمح حالة التسليح العالي التقانة بترجيح سيناريو الأيام القتالية المحدودة، ولا سيّما امتلاك المقاومة أسطولًا من المسيرات والصواريخ الدقيقة، كان إرسال ثلاثة منها عزلاء فوق منصة إينرجيان اختيارًا مبكرًا لهذا السيناريو؛ إلا إذا دعت الحاجة إلى توسيع هذه المواجهة، أو تعظيمها وفقًا لسيناريوهات تتوسع تدريجًا وفقًا للحاجات، وهو المعيار الأساسي في قرار الطرفين، الذي سيترتب عليه تحول الأيام القتالية المحدودة إلى حرب إقليمية تضم إليها الجبهة السورية، كما أشار السيد حسن نصرالله أكثر من مرة.
وتعلو أصوات إسرئيلية تستبعد أي محاولة لاختبار جدية تهديدات المقاومة بالمبادرة إلى الحرب. حذّر إيال زيسر، الخبير الإسرئيلي في لبنان وسورية، من الاستخفاف بما يقوله الأمين العام لحزب الله، مرجحًا سيناريو الأيام القتالية المحدودة، “لأن نصرالله يطلق النار حتى عندما لا يكون ظهره إلى الحائط، وعندما يقول إنه سيفعل، فعادة ما يظهر التاريخ أنه يفعل. وإذا لم يكن هناك اتفاق فسوف يمنع “إسرائيل” من استغلال هذا المورد الطبيعي، ليس في المنطقة المتنازع عليها فقط، ولكن حيث أبعد من ذلك”.
المصدر : #مركز_دراسات_الوحدة_العربية