في لقائه المطول مع صحيفة “الشرق الأوسط”، ورداً على سؤال محرر الصحيفة حول فشل الشرعية “في تقديم نموذج إيجابي للحياة في مناطقها؟” حاول وزير الخارجية في الحكومة اليمنية الدكتور أحمد عوض بن مبارك أن يروج لما أسماه “مثالاً واضحاً” عن النموذج الذي فهمناه مما يقصده الصحفي، بقوله “في ديسمبر (كانون الأول) من العام المنصرم، عادت الحكومة إلى عدن، وأعطى ذلك نموذجاً للمحافظات المحررة، فقد ارتفع منسوب الأمل في أوساط الناس، وحصل تحسن في كثير من القطاعات، أهمها الريال اليمني، وبدأت العجلة تسير، ثم صادفنا تحدياً حقيقياً في الميدان (المسألة الأمنية)، واضطرت الحكومة إلى أن تغادر؛ المسألة الأمنية هي نتيجة وليست سبباً؛ نحن في مرحلة قائمة على الشراكة، ويستلزم ذلك المسؤولية المشتركة”.
ولم يفت الأخ الوزير أن يقدم محافظات مثل شبوة وحضرموت والمهرة ومأرب على أنها نماذج لنجاحات الحكومة الشرعية، وهي تفاصيل يمكن التوقف عندها في سياق الحديث.
لكن القارئ المسكين الذي لا علاقة له بالسياسة وخفاياها ولا بلغة الدبلوماسية وزئبقياتها يتساءل: ما هو النموذج الذي يقصده سعادة الوزير والذي أتت به عودة الحكومة إلى عدن؟ وما هي مؤشرات ارتفاع منسوب الأمل في أوساط الناس؟ وما هي القطاعات التي حصل فيها التحسن؟ هل توفرت الكهرباء أو هل انخفض عدد ساعات الانقطاع؟ وهل أزيلت أكوام القمامة التي تغمر الشوارع العامة؟ وهل تحسنت الخدمات الطبية؟ وهل توفر الوقود لمحطات الكهرباء ولحركة النقل والمواصلات؟ وهل أعيد تشغيل شبكة مياه الشرب النقية لعدن والمدن المجاورة؟ وهل عولجت أزمة الصرف الصحي التي حولت بعض أحياء عدن وعواصم المحافظات إلى بحيرات متعفنة لم تشهد عدن ولا كل الجنوب لها مثيلاً منذ قطنها الإنسان؟ وهل سلمت الحكومة مرتبات الموظفين المنقطعة منذ أشهر وسنوات؟ وحتى مسألة الريال اليمني، لم يقل الوزير ماذا جرى معه
هل توقف عن الترنح أمام كل العملات العالمية؟
لندع الإجابة على هذه التساؤلات البريئة للمواطن الجنوبي فهو أدرى بما يعيشه من عذابات لم تتوقف منذ 2015م
لكننا سنحاول هنا تناول بعض القضايا التي أغفلها الأخ الوزير وأستطيع التأكيد أنه فعل ذلك متعمدا لأن الكشف عن تفاصيل هذه القضايا قد يحرمه الموقع الذي ظفر به أخيرا بعد طول انتظار.
- لقد حصر معالي الوزير فشل الحكومة بما بعد ديسمبر 2020م وتجاوز الحديث عن ست سنوات مما يعتبره كثيرون حرباً غير معلنة من قبل كل الحكومات الشرعية ضد الجنوب والجنوبيين، وقد قالها أحدهم بأن أية تنمية في الجنوب قد تؤدي إلى الانفصال، فالفشل ليس مرتبطا بما بعد ديسمبر 2020م بل إنه يمتد إلى ما بعد يوليو 2015م يوم حرر الجنوبيون أرضهم وسلموها للرئيس الشرعي قبل أن يختطفه الهاربون ويسرقوا منه الانتصار الجنوبي العظيم الذي أدهش الأعداء قبل الأصدقاء ليحولوا هذا الانتصار إلى هراوة تلسع جلود الجنوبيين في كل لحظات حياتهم.
- أما الحديث عن النموذج للمحافظات المحررة بعد عودة الحكومة، وارتفاع منسوب الأمل، وحصول تحسن في كثير من القطاعات، أهمها الريال اليمني، وبدء سير العجلة، فإنه لا يخرج عن إطار أحاديث العلاقات العامة والدعاية الإعلامية التي يلجأ إليها المحامون الفاشلون ليوهموا موكليهم الجاهلين بتفاصيل المقاضاة وألاعيبها، بأنهم أنجزوا لهم شيئا لاستعادة حقوقهم أو لرفع الظلم الواقع عليهم.
- يقول الوزير بن مبارك “ثم صادفنا تحدياً حقيقياً في الميدان (المسألة الأمنية)، واضطرت الحكومة إلى أن تغادر”، ومع أن معالي الوزير لم يوضح ماذا يقصد بـ”المسألة الأمنية”، وما إذا كان يعني هجمات الحوثيين، أم العمليات الإرهابية التي انتعشت بعد سيطرة “الشرعيين” على شبوة، لكن الحملات التي يشنها الإعلام التابع لخاطفي الشرعية بقنواته الفضائية ومواقعه الإلكترونية وصحافته الورقية وما يسميه البعض بـ”الذباب الإلكتروني” المنتشر كانتشار الفطريات بعد المطر، يربط مغادرة الحكومة بالفعاليات الاحتجاجية المتصلة برداءة الخدمات وانعدام بعضها وعدم وفاء الحكومة بتسليم مرتبات الموظفين مدنيين وعسكريين، عاملين ومتقاعدين، ويعلم الوزير أن المظاهرات والفعاليات الاحتجاجية المدنية حقٌ مشروعٌ لكل مواطن لديه مطالب ولو كانت شخصية، فما بالنا بمئات الآلاف بل بملايين المواطنين ممن نسوا اتجاه دوران المروحة في منازلهم، ونسوا معها قرص الأسبرين وشكل الماء الآتي من حنفية المنزل، ومئات الآلاف ممن لم يستلموا مرتباتهم منذ عشرات الأشهر، وبعضهم منذ سنوات، بينما يرون مسؤوليهم يحولون العائدات إلى الخارج ليتقاضوها مرتبات بالعملات الصعبة، وبعشرات الآلاف من الدولارات.
وباختصار شديد أن وزراء الحكومة الشرعية يعتبرون الفعاليات الاحتجاجية المطلبية مسألة أمنية وليست حقا دستوريا مشروعاً ومنصوصاً عليه في الدستور الذي ما يزال يحكم كل اليمن، أو يريدون أم يكونوا حكومةً بدون تقديم أي شيء من واجباتها تجاه المواطنين، أو أنهم لا يفهمون الأمن إلا على أنه حماية الحكومة من المواطنين المحتجين الغاضبين مما يعانون.
- وتجنبا للخوض في التفاصيل المتعلقة بالمحافظات التي يقول الوزير إنها تقدم نموذجاً للمناطق المحررة، ليعلم الجميع أن محافظة إيرادية مثل مأرب يتحكم فيها حزب واحد ليس له معارضون، هذه المحافظة لم تورد من إيراداتها ريالاً واحداً إلى البنك المركزي في عدن، ومع ذلك لم تفلح مليارات الدولاارات من تلك العائدات ولا الجيوش الجرارة ومليارات الريالات السعودية المقدمة كأسلحة ومرتبات وتموين للجيش “الوطني” لم تفلح في الدفاع عن المحافظة من هجمات الحوثيين الذين يكادون أن يسيطروا على آخر مديرياتها، ولا أحد يتمنى حصول هذا.
- هذا عن محافظة مأرب، أما شبوة وحضرموت فلا أدري إن كان معالي الوزير يعلم أم لا يعلم بأن حوادث القتل والاغتيال والإرهاب والاختطاف هي حالات يومية في حياة أبناء المحافظتين اللتين تسيطر عليهما قوات الأشقاء الشماليين من القادمين في 1994م أو بعد أغسطس 2019م، أو أن كان يعلم أن المظاهرات الاحتجاجية المطالبة بتوفير الوقود والكهرباء في محافظات تساهم في 70% من موازنة الدولة اليمنية، وكذا الاحتجاجات المتصلة بالحقوق المدنية والخدمات لم تتوقف منذ سنوات، فما الذي يفاخر به معالي الوزير في تلك المحافظات؟ أما إذا كانت تلك المحافظات هي النموذج الذي يحلم الإخوة الشرعيون بأن يقدموها نموذجا للدولة التي يتبنون فعلى الدنيا السلام.
لقد كان بإمكان الحكومة أن تقدم برنامج عمل لإحداث ما قال عنه رئيس الوزراء من “التعافي” وتقديم النموذج الذي يشجع المواطن الجنوبي على التمسك بالشرعية ويجذب المواطن الشمالي إلى نصرتها بدلا من الانحياز إلى الجماعة الانقلابية السلالية بمساوئها المقيتة، وكان هذا ممكنا لو أن الحكومة جاءت لتمثل الشعب الذي تريد أن تحكمه، ولا تمثل الأحزاب التي لها ثأر مع الجنوب الذي تريد هذه الأحزاب أن تتسيد عليه من خلال ثنائية “المفسدة الكبرى والمفسدة الصغرى”.
لم يسأل “الشرعيون” أنفسهم لماذا يتفوق عليهم الحوثيون رغم بدائية وتخلف ورجعية شعاراتهم وسياساتهم العنصرية؟ والجواب يمكن اختصاره بأن الشرعية لم تستطع أن تبرهن على تفوقها لا الأخلاقي ولا السياسي ولا التنموي ولا الخدمي على الحوثيين، ولا يرغب “الشرعيون” أن يعترفوا بأن المواطن الشمالي لا تهمه الشعارات والأقاويل والوعود اللفظية مثلما يهمه توفير متطلبات حياته ولو بحدها الأدنى، وفي هذه الجزئية فشلت الشرعية في أن تتفوق على الحوثيين بكل ما فيهم من مساوئ.
وأخيراً لست أدري لماذا بعد كل مظاهرة احتجاجية مطلبية سلمية تشهدها عدن يهرب الوزراء إلى الخارج بينما يقول معظمهم إنهم جاؤوا من ساحات الاحتجاجات، وهو ما يبين حالة الانفصام الذهني الذي تعاني منه القوى السياسية التقليدية اليمنية التي تتقاسم دسم الكعكة فيما بينها ولم تفكر ولو للحظة بدفع أتفه ثمن لهذه الكعكة، من خلال أدائها لواجباتها الأساسية تجاه الشعب الذي لفظها في الشمال واختار من لا يقل عنها سوءًا، فهربت منه إلى الجنوب اعتقاداً منها أنه صيد سهل يمكن ابتلاعه بسهولة، لكنها تريد التحكم فيه دون أن تقدم له ما يبقيه على قيد الحياة لتحكمه.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك