بقلم/ عبدالباري طاهر
كتاب من أخطر وأهم الإصدارات التي درست، بعلم وعمق ومسؤولية رفيعة، منابع الفساد ومجراه ومصبه في خارطة شاملة ومتكاملة، لعالم اقتصادي وخبير دولي على جانب كبير من الخبرة والمعرفة والمصداقية هو الدكتور يحيى صالح محسن، الباحث بمركز الدراسات والبحوث، رئيس مركز المرصد اليمني لحقوق الإنسان، ومؤلف الكتاب المهم. وهو باحث متميز، له العديد من الإصدارات والدراسات والأبحاث، منها: كتاب “علاقة اقتصاد البلدان النامية والأقل نموًّا”، وكتاب “التحولات في روسيا إلى أين؟”، وله العديد من الأبحاث والدراسات، منها دراسته: “اليمن إلى أين؟ أرقام ومؤشرات”، و”سياسات الإصلاح الاقتصادي في الجمهورية اليمنية: النتائج الاقتصادية والآثار الاجتماعية”.
كتابه “خارطة الفساد في اليمن- أطرافه النافذة” صدر في العام 2010، أي قبل انتفاضة الـ11 من فبراير 2011، بأقل من عام. كان الإصدار العلمي الراصد للفساد وجرائمه إحدى المقدمات الضرورية للانتفاضة. هناك عبارة شهيرة لماركس: “من يملك يحكم”. ولكن في اليمن من يحكم يملك! فعلي عبدالله صالح -على سبيل المثال- عندما قفز إلى السلطة لم يكن يملك الثروة، وخلال الثلاثة والثلاثين عامًا أصبح من ملاك المليارات والعقارات؛ وهنا سر تسيد الفساد وتحكمه.
الكتاب متوسط الحجم، يقع في 430 صفحة، يشتمل على تقديم، ومقدمة، وخمسة فصول، وما قبل الختام، وملاحق. التقديم بقلم الدكتور محمد المخلافي يقرؤه كثمرة جهد علمي وشاق وطويل لظاهرة الفساد في اليمن؛ إذ استنزف العمل ما يقارب عقدًا من الزمن حيث تجميع البيانات، وتقصي المعلومات والمؤشرات وتحليلها، ومن ثَمّ تشخيص الظاهرة، والخروج باستنتاجات ومصفوفة متكاملة من المعالجات المقترحة. ويشير إلى نزول ميداني عبر استبيان شمل ثلاث شرائح أساسية: الموظفين، المثقفين، رجال الأعمال، وموظفي الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، إضافة إلى الاستفادة من تجارب البلدان الأخرى.
ويصف صاحب المقدمة الدراسة -وهو محق- بأنها أول عمل بحثي أكاديمي رصين يتسم بالعمق والشمول لإشكاليات الفساد في اليمن. ويرى أن التفرد ليس بغريب على أعمال الباحث الدكتور يحيى صالح محسن التي يغلب عليها الدقة، وأسلوب التحليل الرصين.
قبل المقدمة يورد الدكتور يحيى ثلاث طرائف مبكية كلها تشهد وتؤكد أن أحد كبار المسؤولين (رئيس أركان القوات المسلحة) الذي يستغرب حد الهزء والاستنكار مطالبة وزارة الدفاع الأمريكية بإخلاء عهدة ثلاث جزمات، بالإضافة إلى بدلات عسكرية، ويكررون طلب إخلاء العهدة.
والثانية في مجلس الشورى المعين، وتتعلق بتكييف وتسييس الإحصاءات والبيانات لإبراز إنجازات وهمية، وإخفاء الحقيقة.
أما الثالثة، فتتعلق بالقطاع الخاص، حيث عرض المسؤول الأول في الغرفة التجارية بعد الإلحاح على تعبئة الاستمارة الخاصة بالبحث بتقديم قصاصة (مبلغ…)؛ بما يعني أن الفساد قد عم وطم، ولم يعد وباء الفساد حصرًا في جهاز الدولة، ولكن في القطاع الخاص أيضًا.
في مقدمة الكتاب، يشير الباحث أنه ربما يكون للجوانب التاريخية والثقافية علاقة بتفشي ظاهرة الفساد، لكن العوامل الاقتصادية والسياسية، دون شك، هي الأبرز والمحرك الأهم نحو الفساد.
رؤية الباحث علمية عميقة الدلالة، وربط الباحث بين تفشي الفساد وبين تفاقم الأزمات التي تدفع بالجماهير للمعارضة الواسعة، ويدلل على عالمية الفساد المنظم في مختلف بلدان العالم.
يدرس الترابط العميق بين الاستبداد المطلق والفساد، حيث ينتجان بعضهما شأن البلدان العربية، ومنها اليمن، ويقرأ في تمازجهما -حد الاندغام- تقلص الهامش الديمقراطي. يؤكد على الاهتمام الدولي المتعاظم ضد الفساد، ومبيّنًا العديد من الاعتبارات، أهمها: تهديد الأمن والسلام والاستقرار، مشيرًا إلى اهتمام الدراسة وطنيًّا بمخاطر الفساد، ومفصلًا الصعوبات التي واجهت الدراسة، كغياب المعلومات، والتعتيم، وغياب الأبحاث العلمية؛ كل ذلك لم يحُل دون الوصول إلى مؤشرات كاشفة عن واقع ومستويات الفساد المكرس لها الفصل الرابع.
الكتاب -المبحث المهم- يتألف من خمسة فصول، يستعرض الباحث في الفصل الأول مفاهيم ومستويات الفساد وأشكاله وآثاره.
في الفصل الثاني: يتناول الاقتصاد السياسي للفساد في اليمن: مؤسساته، تحالفاته، تركيبته في السلطة السياسية، وعلاقته بنهج الاستبداد، وتوريث الحكم، ورعايته للإرهاب.
يخصص الفصل الثالث لدراسة أوضاع الفساد في القطاع النفطي- المرتع الخصب للفساد، كتأكيد المؤلف. ويكون الفصل الرابع مكرّسًا للدراسة الميدانية التحليلية المستهدفة ثلاث شرائح اجتماعية حسب إشارته في المقدمة، وهم: الموظفون، المثقفون، موظفو الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، ورجال الأعمال من ممثلي القطاع الخاص.
يترصد الباحث بدقة الاتجاهات العامة لمستوى الفساد، ومن أهمها علاقة الفساد المالي بالفساد السياسي، وازدواجية العمل في المناصب العليا الرسمية، والاشتغال بالأعمال الحرة في وقت واحد.
يقرأ الباحث مفاهيم الفساد، وتعريفاته، ومستويات وأشكال الفساد: الآثار الاقتصادية، والآثار الاجتماعية، والآثار السياسية، وينقل عن بيزنس مونيتور إنترناشيونال (مؤسسة دولية تعنى باقتصاد النفط) إدراج اليمن ضمن قائمة دول المصالح الاقتصادية النفطية الخطرة، وحالات التأهب القصوى ضد الإرهاب؛ فاليمن من مجموعة الـ13 دولة، وبدرجة مؤشر خطورة تبلغ 66 من 100 درجة.
كما يذكر الباحث تحذير مؤسسات دولية من خطورة الاستثمار في اليمن أو السفر إليها؛ ما تسبب عنه من حرمان اليمن من المساعدات المالية والاقتصادية، والحرمان الكامل من معونة صندوق النقد الدولي، بسبب فشلها في أغلب المؤشرات المعيارية.
يحدد الباحث آليات الفساد في:
الموازنة العامة للدولة.
الموارد العامة للدولة.
المؤسسة العسكرية.
حزب المؤتمر الشعبي العام- الحزب الحاكم.
يتناول القطاع الخاص المتكيف مع علاقات الفساد، مدللًا أن السلطة السياسية وحدها مصدر الثروة؛ من يحكم يملك، عكس مقولة ماركس: “من يملك يحكم”. [القارئ]. ويدلل أن العلاقة العضوية القائمة بين السلطة والقطاع الخاص علاقة فساد، وأن الحكم والبنك الدولي شريكان في التعتيم وإفساد البيانات.
يقرأ -بعمق ومسؤولية رفيعة- خلفية تشكيل هيئة الفساد، ويقرأ بدقة قانونها، وجوانب القوة والقصور، مشددًا على جوانب القصور، والعقوبات السائدة في بعض البلدان المتقدمة الجادة في مكافحة الفساد. ويدرس القضايا التي تقف الهيئة عاجزة عن مواجهتها تحت عنوان “اليمن على أعتاب الدولة الفاشلة”.
يدرس الدكتور التقارير الدولية، والتحذيرات الفاجعة، كما يدرس أيضًا، وهو الخبير الاقتصادي والعالم المطلع على الأوضاع العامة في البلاد، تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، واقتراب الدولة من حافة السقوط والفشل، ويتوقع -حسب تقارير دولية- أن اليمن خلال عامي 2005 و2006 دولة فاشلة.
ويبدو أن الفساد كان أكبر من كل توقعات الخبراء الدوليين المتشائمين جدًّا، فكان الفساد هو الأقوى والأسبق في سقوط الدولة المنخورة، فقد كانت حرب 94، وحروب صعدة الستة، وعشرات الحروب في غير قبيلة ومنطقة – كلها قد أثبتت وأكدت أن خراب الدولة وانهيارها أكبر من كل التوقعات، وأن فساد حكامها لا يظاهى.
يشير الدكتور أن اليمن فقدت السيطرة الكاملة على أراضيها ومياهها الإقليمية، كمـا أن الأوضاع الأمنية والعسكرية فيها غير مستقرة، وأن الحكومة لا تلتزم بمعايير الحكم الصالح الفعّال، فضلًا عن تفشي ظاهرة الفساد في أجهزة الدولة، وفي الأجهزة القضائية، والتلاعب بميزانية الدولة، وحالات عديدة لانتهاك حقوق الإنسان، وتدهور خطير في النمو الاقتصادي، وفي خدمات الصحة والتعليم. (ص 115، نقلًا عن مؤسسة الشرعية الدولية، وتقرير صندوق السلام الأمريكي للعامين 2005-2006).