منذ سنوات وأكتوبر يعود مكشوفاً وقد اندثرت منجزاته ، وذهبت دولته ، وخرب حلمه الكبير . يعود حزيناً مكسوراً ، ولكن بسمو لا يضاهيه إلا نبله وعمقه وعظمة شهدائه و رواده ، والتي جسدت على الدوام أصالة الثورة حينما عبرت بالانسان والجغرافيا تاريخاً طويلا من الاستعمار و الانقسام والتشرذم وصراع الهويات .
يعود وعلى الارض ترتفع جدران عالية تفصله عن تاريخه ؛ أو هكذا يبدو مشهد الحياة ، في صورتها العشوائية الجديدة ، التي خرجت بها من بين أنقاض المتغيرات التي هبت على البلاد منذ الوحدة حينما ترآى للجميع أن بداية مشوار جديد قد تحقق على طريق سبتمبر وأكتوبر .
ذلك ما كان قد اتسع له المخيال الاجتماعي المفعم بالأمل ، غير أن السياسات ، التي أوحلت الطريق إلى هذا الغد المنشود ، لم تقدم أي دليل على أن أياً من ثورتي سبتمبر أو أكتوبر كانتا تقودان الوعي السياسي الذي أخذ يتحرك بمفاعلات مشتقة من الحاجة التي ولدتها الحسابات الخاصة والآنية ، وحركتها دوافع وتحالفات انتهازية ليس لها علاقة بذلك الحدث التاريخي إلا عندما يتعلق الأمر بالقرار المبيت لاحتوائه وإعادة تصميمه بمقاسات لا تتسع لأهدافه العظيمة .
في ميدان السبعين في صنعاء حشد علي سالم البيض ما تبقى في ثنايا وجدانه من زخم ثورة ١٤ أكتوبر ، إضافة إلى ما بثته الرمزيةالتاريخية للميدان من مشاعر ، فخاطب الجمع الهائل يومذاك : “إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى فسالت دموعها” .
ورد الطرف الآخر بلغة عبرت عما استقر عليه الحال من معطيات كانت قد شكلت قطيعة مع سبتمبر ” لقد هربتم إلى الوحدة” ، في تعبير يعكس جهلاً بالتاريخ ، والجغرافيا السياسية والمصالح المشتركة ، والثقافة المجتمعية ، وتأثير ثورة أكتوبر ، وكل ما يمت إلى ثورة سبتمبر بصلة . وكان واضحاً أن الفجوة هائلة .
في الجنوب ظلت ثورة أكتوبر تضغط على الدولة ” بالروح بالدم نفديك يايمن ، نفديك يا صنعاء نفديك يا عدن” .. كانت تقصد صنعاء سبتمبر ، لكنها لم تنتبه كثيرا للبردوني وهو يردد ” فتحت صنعاء باباً ثالثا ليتها تدري إلى أين انفتح” .
كانت رومانسية الثورة في الجنوب تدفع بمزيد من البواعث السياسية والثقافية التي تساعد على إعادة بناء الهدف في إطار من الوفاء لثورة اكتوبر وشهدائها ، محاولة إنضاج المعطيات التي كانت الدولة تتعامل معها بواقعية متجذرة في بنية إجتماعية وسياسية وثقافية ملائمة ، وإن ظلت غير مندمجة بما فيه الكفاية ، ولذلك فقد كانت منظومة الثورة أكثر تأثراً بالخطاب الساخر الذي استقبل به الطرف الآخر ذلك الحدث ” هربتم إلى الوحدة” ، بالمقارنة مع منظومة الدولة التي التحمت بالوقائع اليومية وامتصت السخرية .
وعلى هذا الأساس تم ضرب هذه المنظومة بلا هوادة ، ووضعت منظومة الدولة أمام خيار التخلي عن منظومة الثورة في مساومات وافتعال إضطرابات متواصلة ، وتفجيرات للمنازل ومقار السكن ، والقيام باغتيالات واسعة لمنتسبي تلك المنظومة ، وبناء تحالفات لم تدخر وسعاً في أن توظف كل احتياطي الماضي من الصراعات السياسية والاجتماعية لدفن تلك التجربة السلمية تحت أنقاض حرب فتحت الطريق إلى المجهول .
كان هناك من يتربص بالجميع ، ينتظر أن تدفن أكتوبر تحت أنقاض حرب بائسة ، كما كانت سبتمبر قد وئدت داخل نظام نصف جمهوري .
وقاد ذلك الطريق المجهول إلى هذه الكارثة التي كان يمكن تجنبها بالتمسك بسبتمبر وأكتوبر الحقيقيتين بدلاً من الاستنساخ الذي قاد إلى صراعات وانقسامات حسب ما أملته حاجة النخب الحاكمة .
سيظل أكتوبر حاملاً مشعل الحرية..
كل عام والجميع بخير